قبل الثورة الصناعية بسنوات، كان لاغاري حسن شلبي، أحد أبناء العثمانيين يحلم بالطيران مثل الأندلسييْنِ "عباس بن فرناس" و"الخشخاش بن سعيد"، اللذين حاولا قبل بضعة قرون لكنهما فشلا.
وأراد "حسن شلبي" أن يكون صنيعه مفاجأة سعيدة، للسلطان مراد الرابع وكبار رجالات الدولة العثمانية.
وقد كان أول مسلم عثماني يصنع صاروخاً ويُحلِّق به فوق البوسفور قبل قرابة أربعة قرون، وبعد فترة قصيرة تبعه أحمد شلبي "هزارفن" وهو أول مَن حلَّق بالطيران الشراعي.
في ساحة قصر السلطان في سراي بورنو في إسطنبول الأوروبية قام لاغاري حسن بإعداد صاروخه.
ولبس جناحين كجناحَيْ النسر يمثلان مظلة للهبوط، ثم قال للسلطان العثماني مراد الرابع ُمازحا: "سُلطاني.. أستودعك الله، إني صاعد إلى السماء للحديث مع نبي الله عيسى".
أدهش الحاضرين بثقته، وركب صاروخه، وأمر مساعديه بإشعال فتيل البارود في بعض الأذرع السبعة في قاعدته إذ وضع في كل ذراع منها حوالي 50 أوقية من معجون البارود.
وقد انطلق الصاروخ مساء مشعلاً سماء إسطنبول، وجاذباً عشرات الآلاف لمشاهدته من العامة والخاصة.
وعندما وصل أعلى ارتفاع له وبدأ بالهبوط، أشعل حسن شلبي بعض الأذرع الأخرى فتوجه الصاروخ مستقيماً موازياً لمياه البوسفور.
وعندما انتهت مادة البارود بدأ الصاروخ بالسقوط، وألقى لاغاري حسن نفسه فاتحاً جناحيه، وهبط في مياه البوسفور بالقرب من شاطئه الآسيوي وسبح إلى قصر سنان باشا الصدر الأعظم.
ثم اتجه إلى الحاضرين وعلى رأسهم السلطان في قصره، وقال ممازحا: "سلطاني.. إن نبي الله عيسى يُلقي عليك السلام".
أُعجب السلطان بهذه التجربة كثيراً وأهدى لاغاري حسن صندوقًا من المال.
ثم عينه في سلاح السباهية (الفرسان) في الجيش العثماني، لكنه ترك إسطنبول متوجِّها إلى شبه جزيرة القرم، وقد قضى حتفه فيها.
عام 1636 حاول أحمد شلبي الشهير بـ"هزارفن" تدشين تسع محاولات للطيران لمسافات قصيرة في "أت ميدان" (ساحة الخيول بإسطنبول) ونجح بها.
وبعد ذلك أعد العدة للطيران الكبير، من فوق برج "غلطة" في الجانب الأوروبي إلى منطقة "أسكدار" في الجانب الآسيوي من إسطنبول، أي حوالي 7كيلومترات.
تجمَّع أهالي إسطنبول على الساحل بصحبة السلطان مراد الرابع والصدر الأعظم والوزراء في قصر "سراي بورنو" يراقبون وينتظرون.
إذ قرَّر أحمد شلبي يومها القفز من فوق قمة برج "غلطة" ذو ارتفاع 60 متراً.
متوجِّها نحو مضيق البوسفور باستخدام الأجنحة التي ركَّبها حول جسده ومُستفيدا من الريح التي هبَّت في الاتجاه ذاته، قاطعاً المضيق، ليحطّ أخيراً في "دوغانجيلر" بمنطقة أسكدار.
أعجب السلطان بهذه المحاولة، وأعطى "هزارفن" كيساً مملوء بالذهب.
كانت كلتا التجربتين أول محاولات صناعة الصواريخ أو المقذوفات في تاريخ الحضارة الإسلامية والدولة العثمانية، وأول تجربة الطيران الشراعي.
وقد نجحتا نجاحاً شهد له بعض المتخصصين في علوم الطيران والتحليق في عصرنا.
لقد اهتمَّت الدولة العثمانية منذ بداية نشأتها بالعلم، ويعود ذلك إلى العارف الصوفي، والفقيه الحنفي، الشيخ "إده بالي"، حيث زوَّج ابنته إلى عثمان الأول جد العثمانيين ومؤسِّس دولتهم.
وقد تطورت المؤسسات العلمية والتعليمية في الدولة العثمانية مع تطوُّر فتوحاتها، واتساع رقعتها، ووجود شعوب جديدة ضمنها.
فأنشأ العثمانيون المدارس الفقهية والشرعية والطبية في أسكي شهير وبورصة وأدرنة وإسطنبول، ثم كل المدن.
وقد وصل نظام المدارس/الكليات العثمانية إلى درجة عالية من الإتقان من خلال إنشاء مدرسة الفاتح في عهد السلطان محمد بن مراد الثاني.
أطلقوا اسم "الصحون الثمانية" أو "المدارس الثمانية" على مدرسة الفاتح، بسبب صحونها الواقعة في شمال مسجد الفاتح وجنوبه.
وهي أربعة صحون في الشمال وأربعة في الجنوب، وكانت تماثل جامعة في وقتنا.
وأطلق اسم "الدانشمند" على طالب العلم/المستشار، ومساعد الأستاذ "المعيد" والأستاذ "المدرس".
ثم أُنشئت ثماني مدارس أخرى لإعداد الطلبة للصحون الثمانية سُميت "موصلة الصحن" أو "التتمة".
ثمَّ بنى بايزيد الثاني عدة مدارس، بدأت بدارسة الفقه، وبنى السلطان سُليمان جامع السليمانية، ومجموعة من المدارس.
خرّجت علماء ومدرسيين وقضاة ومُفتين، وكُتّابا متفقهين في دوائر الدولة، ووجد في مدارس السليمانية فرع الطب لأول مرة، وشقت الصناعات والحِرَف طريقها تُلقَّن أسرارها جيلاً بعد جيل.
المعارف المتوفرة عن العلوم الرياضية والصناعية التي دُرِّست في المدارس العثمانية لم تكن كافية لإنشاء معاهد خاصة لتدريس "الهندسة".
لكن استمر توارثها وتطويرها لحاجتهم للمتخصصين في الشؤون العسكرية والمدنية حينها.
ظهرت المؤسسات الحديثة خلال عصور التجديد في القرن التاسع عشر من خلال العلاقة بين المعلم والمبتدئ، وبهذه الطريقة تربى خبراء المدافع "توبجيلر".
وخبراء الصب والسباكة "دوكوجيلر" داخل "الطوبخانة" أي دار صناعة المدافع، ثم اختُبروا وأُرسلوا إلى مختلف دور السباكة "دوكومخانه" والقلاع في مختلف المناطق.
كان تعليم هذا النوع من الحِرَف قائما أيضا في الترسانة البحرية وأوجاق القمبرجية (رُماة المدافع)، وكشف بعض المتعلمين في تلك الأوجاقات أو الثكنات عن براعتهم في إنشاء السُّفن وتصنيع السلاح.
ونجح العثمانين في صناعة أكبر مدفع في أوروبا في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي.
كان المدفع سبب هام في دك حصون القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح في إبريل/نيسان 1453 وتقدموا عبر البلقان ووسط أوروبا وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا والعراق وحتى القوقاز وشمال غرب إيران كله قائما على "الطوبجية"، أي المدفعية ورجالاتها.
وأنشأوا مؤسسة مستقلة "البارودخانه العامرة"، زودت مدفعية القوات البرية والبحرية العثمانية طيلة قرون باحتياجاتهم من البارود ومواد الاشتعال، وأول "بارود خانة" لهم كانت بجوار ساحة الخيل.
وقد تعلَّم الأسطى لاغاري حسن شلبي فيها عدة أسرار لصنعة البارود وقدرته على رمي المقذوفات إلى السماء.
ومن هنا بدأت حكايته وحلمه بالطيران، وصنع أول صاروخ مأهول يُطلق إلى السماء مستغلاً مناسبة الاحتفال بعقيقة "قايا" ابنة السلطان العثماني مراد الرابع عام 1633، عن طريق تصميم قاعدة احتوت على سبعة أذرع (صواريخ صغيرة) مليئة بمعجون البارود.
المصدر: الجزيرة + ويكيبيديا
تساعدك أداة محول العملات على تحويل قيمة أي عملة إلى أي عملة أخرى.