من قرطبة إلى فاس ثمّ إلى مستقره الأخير في القاهرة حيث غدى طبيباً لصلاح الدين الأيوبي.
يُعد ابن ميمون أعظم فلاسفة اليهود شأنًا في العصور الوسطى، ووصفه الشيخ مصطفى عبد الرازق، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الملك فؤاد المصرية، أنه من أهم فلاسفة العرب والإسلام.
وذلك لما اختص به من ألوان البحث النظري في الفلسفة، الذي نما في بلاد الإسلام وترعرع في ظل دولته.
فما قصة هذا الحبر اليهودي؟ وما إسهاماته ومؤلفاته؟ وما العلاقة التي جمعته بصلاح الدين الأيوبي؟ وكيف كانت مكانته في الحضارة الإسلامية؟
خلافا للحضارات التي يبرز فيها عادةً فلاسفة ينتمون لدينها فقط، إلا أنّ الحضارة الإسلامية شملت فلاسفةٍ وعلماءٍ غير مسلمين، وأحدهم موسى بن ميمون.
ويعد موسى بن ميمون ابن الحضارة الإسلامية علمياً، وهو أحد "الإصلاحيين" اليهود، وقد عُرفت عنه مقولة في الأوساط اليهودية وهي:
"بين موسى وموسى لم يقم مثل موسى"
بمعنى بعد النبي موسى (عليه السلام) لم تأتي شخصيّة تستحق الاحترام والتقدير كـ موسى بن ميمون.
كما لديه تجربة مشوّقة، فلم يكن فيلسوفاً وطبيباً يهودياً في الحضارة الإسلامية فقط، بل كان طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين الأيوبي! ومستشاراً سياسياً أحياناً.
وُلد موسى في قرطبة التي كانت حاضرة الدولة الإسلامية في الأندلس عام 1135 وقد تمتّع اليهود بحرية ممارسة دينهم وطقوسهم اليهودية تحت حكم المرابطين.
وأبوه قاضياً في المحاكم الكنسية، غير أن قرطبة سقطت في يد دولةٍ مسلمة أخرى أكثر تعصباً جاءت من المغرب وسيطرت على الأندلس، هي دولة الموحدين.
فكان أمام اليهود خيارين إمّا اعتناق الإسلام أو مغادرة الأندلس، السبب الذي جعل أسرته تنتقل إلى مدينة فاس المغربية عام 1159، فدرس بجامعة القرويين.
تظاهرت عائلته بالإسلام في فاس كغيرها من الأسر اليهودية، فقد كان محظور عليهم أيضاً أن يكونوا يهوداً.
ويقول ابن ميمون أنهم كانوا لا يصلون ولا يؤدون طقوس الإسلام كاملةً ولكن فرض عليهم التلفُّظ ببعض العبارات الإسلامية دلالة اعتناقهم الإسلام، من أجل تحاشي غضب المتعصّبين في الدولة.
وبعد حوالي 5 سنوات، هاجرت عائلته إلى فلسطين عام 1165 ومنها إلى القاهرة حيث استقر هناك حتى وفاته عام 1204.
عند وصوله مصر أعلن ابن ميمون يهوديته، الأمر الذي جعل بعض المتعصبين مطالبة السلطات قتله بتهمة "الرّدة عن الإسلام"، لكن القاضي الفاضل وزير صلاح الدين رفض ذلك قائلاً:
"الرجل الذي أرغم على الإسلام ليس بمسلم، وبالتالي لا يمكن أن نعتبره مرتداً".
وفي مصر بدأ رحلته مع السلطان صلاح الدين الأيوبي.
تفرّغ موسى للعلم بينما كان أخوه الأصغر تاجراً ومعيلاً للعائلة ماديّاً.
توفي أخاه عام 1170 بعد غرق سفينته المتجهة إلى الهند، الأمر الذي جعله حزيناً ومريضاً عدة شهور.
بعدها اضطر للبحث عن مصدر آخر للعيش، فبدأ مزاولة الطب، بعد أن رفض الكسب من عمله في تعليم التوراة والتعاليم اليهودية.
تم تعيينه رئيساً للطائفة اليهودية في مصر عام 1177، وقد بدأ محاولاته في رفع مستوى اليهود دينياً وعلمياً.
أراد ابن ميمون إبطال العادات الخاطئة والخرافات المنتشرة بين الطائفة اليهودية التي كان يعتبر بعضها وثنية ويجب أن تبقى الديانة اليهودية ديانة توحيدية.
فبدأ في تنقية التوصيات الدينية اليهودية من الخرافات وصبغها بصبغة عقلانية، وقد عارضه الكثير من رجال الدين اليهود وعلمائه.
بقي يعمل طبيباً ليعيل نفسه، واشتهر جداً عندما أصبح طبيباً في البلاط السلطاني، حيث وفر له القاضي الفاضل – وزير صلاح الدين – عملاً في دار السلطان، وأصبح طبيباً لصلاح الدين ومن يرث العرش بعده حتى وفاته.
لم يكن وجود ابن ميمون في قصر السلطان لبراعته الطبية وفلسفته فقط، بل تمت استمالته من قبل القصر لحنكته السياسية، فقد كان شخصيةً مقبولة لدى اليهود في الأقطار المختلفة.
فمثلاً كانت اليمن تحت حكم الدولة الأيوبية، ووجود شخصية مثل ابن ميمون في قصر السلطان يمثل عاملاً مهدئاً لتمردات اليهود في اليمن، وتسهم في تسهيل بعض أمور الطائفة اليهودية داخل الدولة.
وبسبب قربه من صلاح الدين الأيوبي، سمح السلطان لليهود بالإقامة في فلسطين والقدس بعد تحريرها من الغزو الصليبي، بعد أن كانت محظورة من قبل الصليبيين وأتاحها لهم صلاح الدين الأيوبي.
بقيت مكانته في قصر السلطان، حتى وفاته عام 1204، أي بعد وفاة صلاح الدين بحوالي 11 عاماً.
توفي في القاهرة، ودفن في مدينة طبرية في فلسطين حسب وصيته، وفي القرن الثاني عشر الميلادي تمّ بناء معبد موسى بن ميمون في نفس مكان إقامته عندما وصل القاهرة، ويعد اليوم من أهم وأعرق المعابد اليهودية في العالم.
ويقع الآن في حارة اليهود في القاهرة القديمة، وتم إعادة تجديده أكثر من مرة في أعوام 1887 وعام 1925 وعام 1967.
المصادر: عربي بوست + ويكيبيديا
تساعدك أداة محول العملات على تحويل قيمة أي عملة إلى أي عملة أخرى.