في 30 يناير/كانون الثاني عام 1982، يتوفى "جاك بيتون" رجل الأعمال الإسرائيلي في ألمانيا، بعد صراع طويل مع مرض السرطان.
كانت وفاته صدمة لزوجته التي أحبته وعاشت معه عُمراً طويلاً، ولأبنائه أيضاً، الذين لا يكادون يتأقلمون مع حياتهم دونه، حتى تسقط على رؤوسهم صخرة جديدة.
فبعد مرور 3 أعوام من وفاته يطرق بابهم مُحاميه، ليُفاجئهم بأن رب أسرتهم لم يكن اسمه جاك بيتون.
الحقيقة أن الأب كان "رفعت الجمال"، وأنه لم يكن إسرائيلياً؛ بل كان جاسوساً مصرياً، وأنه كان مُسلماً.
كان دليله على كل هذا هو مُذكراته التي حملها لهم مكتوبة بخط يده، هذا هو رفعت الجمّال الذي اشتهر في الإعلام العربي باسم "رأفت الهجان".
على شاشات التلفزيون المصري جُسدت شخصية رفعت الجمّال في عمل درامي، بترتيبٍ مع المُخابرات العامة المصرية.
أورد خلاله كافة المعلومات الدقيقة والحقيقيّة حول شخصية رفعت الجمال، و، وقام ببطولته الفنان المصري محمود عبدالعزيز، تحت اسم "رأفت الهجان".
ومن هنا عرف الشارع المصري والعربي الجاسوس المصري والدور الذي قدَّمه، لاقى العمل نجاحاً جماهيرياً كبيراً، لتفوق شهرة رأفت الهجان كلاً من رفعت الجمال وجاك بيتون.
هو رفعت علي سليمان الجمال، المولود في عام 1927، كفله أخوه بعد وفاة والده، وفقاً لما جاء في مُذكرات الجمال.
لم يوفّق في الدراسة، وظهر ميله الشديد للتمثيل والسينما، استعان به الممثل بشارة واكيم في 3 أفلام، بعدما أقنعه الهجان بمواهبه الفنية.
عمل في شركة بترول أجنبية في البحر الأحمر، ووقع الاختيار عليه لإجادته اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ثُم طُرد بسبب اتهامه باختلاس أموال الشركة.
يقول عن ذلك -في مُذكراته- إن مدير الفرع هو من اختلس وورطه في الأمر ظلماً، بعدها عمل ضابطاً لحسابات السفن على سفينة الشحن المسماة "حورس".
غادر إلى الولايات المتحدة وأقام بها بشكل غير قانوني، بسبب عدم الحصول على بطاقة التأمين الاجتماعي الخضراء.
فبدأت إدارة الهجرة تطارده، ووُضع اسمه في القائمة السوداء بالولايات المُتحدة.
غادر إلى كندا، ومنها إلى ألمانيا التي فقد بها جواز سفره. اتّهمه القنصل المصري هناك ببيع جواز سفره، ورفض إعطاءه وثيقة سفر.
ألقت الشرطة الألمانية القبض عليه وحبسته ثم رُحل قسراً إلى مصر.
عمل بعدها بشركة قناة السويس، وترك العمل بعدما بدأ البريطانيون في فحص الهويات الشخصية بتدقيق أكبر.
كان يملك هويّة مُزورة، ثم بدأ ينتقل من اسم إلى اسم آخر حتى قُبض عليه بعدما اشتبه به ضابط بريطاني في ليبيا.
وتم تسليمه للمخابرات المصرية وبدأ التحقيق معه على أنه شخصية يهودية.
اعترف الجمال للضابط الذي كان يستجوبه بكل شيء، وكيف كان ينخرط في مجتمعات اليهود، وكيف أجاد تقمص سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن يصبح ممثلاً.
من هنا تعرَّفت المُخابرات على الجمّال، وأدركت أن عليها استغلال مواهب الرجل لزراعته في إسرائيل بالفعل.
أصبح رفعت الجمّال هو العميل 313 بالمُخابرات المصرية، وفي عام 1955 خطى خطواته الأولى في تل أبيب في شارع ابن يهودا، حيث تنتشر مكاتب شركات السياحة والطيران.
تحوّل إلى جاك بيتون، رجل الأعمال الذي يمتلك شركة سياحية، وله جواز سفر إسرائيلي صادر من تل أبيب، ولكن من مواليد المنصورة بمصر.
ولمدة 20 عاماً لم يستطع أحد كشف أمره، حتى زوجته التي عاشت معه.
خلال سنوات عمل الجاسوس المصري رفعت الجمّال في إسرائيل وضع بين يدي القيادة المصرية الموعد السري الذي حدَّدته القيادة الإسرائيلية لشنِّ حربها على العرب عام 1967.
وتمكّن أيضاً من كشف الكثير من أغلى جواسيس إسرائيل، منهم إيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي في سوريا.
كما نقل خرائط مُفصلة لخطّ بارليف، ووضعها بين يدي الرئاسة المصرية.
"حبيبتي فالتراود، عندما تقرأين هذه الكلمات سيكون قد مضى وقت طويل منذ أن تركتكم، ربما تكونين الآن قادرة على قبول الحقيقة. أعرف قسوة الألم الذي تشعرين به، لن تعرفي ما كنت أعانيه من عذاب، بسبب كذبة اضطررت أن أعيشها، أرجوكِ لا تستبقي الحكم عليَّ، فأنتِ تعلمين أنني لم أحب أحداً أبداً أكثر منكِ".
هذه هي الكلمات التي تركها رأفت الهجان لزوجته فالتراود، في أولى صفحات مُذكراته.
في عام 1963، تعرفت فالتراود على رأفت الهجان للمرة الأولى في حفل عشاء بأحد الفنادق الألمانية.
عرفته باسم جاك بيتون، رجل الأعمال الإسرائيلي الذي يملك وكالة سفر سياحية.
كان يبدو لطيفاً جداً، وعندما تحدثت إليه شعرت أنها تعرفه منذ وقت طويل، لم تكن ترغب في جعل العلاقة تتطور.
لأنها تعرف أنه أتى مدينة "لفرانكفورت " بألمانيا فقط زائراً، لكنه بعد العشاء طلب منها الزواج.
بعد تفكير قبلت فالتراود الزواج من جاك، وعاشت معه حياة مثيرة.
رأت معه الكثير من الأشياء الجديدة التي لم تكن قد رأتها في الـ22 عاماً التي عاشتها في الحياة قبله.
كان يدعوها إلى أفضل المطاعم والفنادق، ولا يتردد في شراء أي شيء يعجبها من ملابس ومجوهرات، عاشت معه في تل أبيب، وأنجبت منه.
في الزيارات العائلية، كانوا يلتقون بالعديد من الشخصيات الإسرائيلية البارزة، مثل موشيه دايان، عسكري وسياسي إسرائيلي.
ولم يكن غريباً أيضاً عليها في فترة زواجها مُقابلة جولدا مائير، في إطار علاقات زوجها.
وحينما ذهبت فالتراود مع جاك في رحلة إلى مصر، قابلت أيضاً شخصيات بارزة ولم تُصدق نفسها وهي مدعوة للقاء الرئيس المصري آنذاك أنور السادات.
وحينما سألت فالتراود زوجها كيف يعرف شخصيات بارزة هكذا في الدول المُختلفة، أجابها أن هذا هو حال رجال الأعمال.
بعد وفاة زوجها بثلاث سنوات عرفت فالتراود حقيقة زوجها، الذي عاشت معه 20 عاماً.
حينها فقط لفت نظرها مداومة قراءة زوجها للقرآن، الذي كانت تُفسره بأنه يعرف العربية جيداً، ومن الطبيعي أن يقرأ ما شاء.
عرفت فالتراود أيضاً أن زوجها كان مُكلفاً بتأدية مُهمة سرية طوال سنوات زواجه منها، حيث عاش في إسرائيل جاسوساً لصالح المُخابرات المصرية.العميل 313
في شارع يوشع بن نون في تل أبيب، عاش العميل 313 باسمٍ مُستعار وشخصيةٍ مُستعارة ودينٍ مُستعار، ليتمكَّن من تأدية مهمته السرية.
وبالفعل، تمكَّن خلال هذه المَهمّة من وضع الموعد السري الذي حدَّدته إسرائيل لضرب العرب عام 1967 بين يدي القيادة المصرية.
هو أيضاً الذي تمكَّن من كشف الكثير من أغلى جواسيس إسرائيل، ويُقال إنه هو الذي كشف الجاسوس الإسرائيلي الشهير في سوريا إيلي كوهين.، حيث رأى صورته مع يهودية بإسرائيل.
وحينما سألها من هذا قالت له زوج أختي، هنا طارت رسالة من تل أبيب للقاهرة، ليتم فتح ملف إيلي كوهين، ويوضع بين يدي الرئيس السوري آنذاك أمين الحافظ، وهو ما ينفيه جدعون بن عزرا، النائب السابق لرئيس الموساد.
العميل 313 أيضاً هو الذي تمكَّن من نقل خرائط مُفصلة لخط بارليف، ووضعها بين يدي القيادة المصرية.
في عام 1993م، نشرت صحيفة معاريف صفحةً كاملة تقول فيها إن رفعت الجمال لم يكن جاسوساً لصالح مصر فقط.
وإنما كان عميلاً مزدوجاً للدولتين، وقد عمل بشكلٍ أساسي لصالح إسرائيل، وأسهم في تمكين إسرائيل من الانتصار في حرب 1967.
ادعت الصحيفة أيضاً أنه حين أرسل الجمّال إلى إسرائيل اكتشفت المُخابرات الإسرائيلية أنه شخص غير عادي.
وتم إلقاء القبض عليه ليعترف فوراً أنه من المُخابرات المصرية، وهددوه بأنه سيتعرض لمُحاكمة كبيرة جداً، وأنه إذا أراد الإفلات من العقوبة والمُحاكمة فعليه أن يصبح عميلاً مزدوجاً بين مصر وإسرائيل.
وفقاً للصحيفة فقد بدأوا في إعطائه معلومات دقيقة لينقلها إلى مصر، كي يبنوا مصداقيته أمام المُخابرات المصرية.
لم يتوقف الأمر في الصحف الإسرائيلية عند هذا الحد، ففي عام 2014 تكرر الأمر مرة أخرى، تُصر إسرائيل أن تُبرز عبر صفحات من صحفها أن رفعت الجمّال كان جاسوساً مزدوجاً لصالح الدولتين.
وهي نفس الادعاءات التي يؤيدها اللواء رفعت جبريل، وهو أحد قيادات المُخابرات المصرية، في حواره مع جريدة المصري اليوم.
حيث قال إن أي جاسوس أطول فترة يستطيع مكثها هي أربع سنوات، وبعد ذلك يُصبح عميلاً مزدوجاً، وإن الإسرائيلين قاموا بمساعدة الجمّال كثيراً، ولديه الكثير من الشركات والاستثمارات في أوروبا بسببهم، وإن المسلسل قدَّمه ببريقٍ مبالغ فيه.
معارضة الحجج التي أوردها الضابط المصري ردَّ عليها الإعلامي المصري أحمد المسلماني، بأن هناك الكثير من الجواسيس الذين طالت مدة عملهم عن السنوات الأربع، دون أن يكتشفهم أحد.
ودون أن يتحولوا إلى عملاء مزدوجين، أما عن المساعدات الإسرائيلية التي كان يتلقاها الجمّال بشأن استثماراته فهذا كان أمراً طبيعياً؛ لأنه كان يتعامل كشخصية إسرائيلية بارزة وهامة ومُقربة من القيادات.
يستند المسلماني في دفاعه إلى حوارٍ أجراه الكاتب الصحافي سعيد الشحات مع فتحي الديب، وهو واحد من بين 8 أشخاص من أعمدة المُخابرات المصرية، بالتعاون مع زكريا مُحيي الدين، الذي تحدّث خلاله الديب بانبهار عن شخصية الجمّال، وكيف استطاع بذكائه الاستثنائي أن يعيش في إسرائيل 20 عاماً دون أن يكشف حقيقة أمره أحد.
وهو ما أكده أيضاً محمد نسيم، أحد أبرز رجال المُخابرات المصرية قائلاً: "تتحرك إسرائيل كردّ فعل لما أحدثه نشر قصة رأفت الهجان، ذلك البطل المصري الرفيع الكفاءة والمستوى، الذي عاش في إسرائيل 20 سنة دون أن يفتضح أمره، إلا بعد إذاعة المخابرات المصرية للقصة بنفسها، ولو كان الهجان عميلاً مزدوجاً كما يدعون، فلماذا ظلَّ في إسرائيل؟ ولماذا لم ينتقل للإقامة في مصر أو في إحدى الدول العربية؟ كيف يكون عميلًا للموساد وهو يعيش في إسرائيل؟
المصدر: عربي بوست
تساعدك أداة محول العملات على تحويل قيمة أي عملة إلى أي عملة أخرى.