أصاب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 765م مرض في معدته، فامتنع بسببه عن الطعام، ولم يتمكن الأطباء في بغداد من علاجه.
وكانت حالته تزداد سوءاً بشكل مستمر، لهذا اجتمع الأطباء وبحثوا عن أبرز علماء الطب، وذكروا له جرجيس بن جبرائيل وهو من مدينة جنديسابور بإيران.
فقاموا بإحضاره إليه، وعندما وصل دعا إليه بالفارسية والعربية، أُعجِبَ الخليفة بحسن منظره ومنطقه، وعندما سأله عن عدة أشياء أجابه عنها بسكون، فقال له:
"قد ظفرت منك بما كنت أحبه وأشتاقه، وحدّثه بعلّته وكيف كان ابتداؤها، فقال له جورجس أنا أدبرك كما تحب.
ولما كان من غدٍ دخل إليه ونظر إلى نبضه وإلى قارورة الماء ووافقه على تخفيف الغذاء، ودبّره تدبيرا لطيفا حتى رجع إلى مزاجه الأول، وفرح به الخليفة فرحا شديدا وأمر أن يُجاب إلى كل ما يُسأل".
تطورت المعرفة الطبية منذ العصر النبوي والأموي حتى بدايات العصر العباسي في منتصف القرن الثاني الهجري.
بعدها أنشأ الخليفة العباسي المأمون دار الحكمة إذ اهتم فيها بترجمة العلوم اليونانية كالفلسفة والطب والرياضيات وغيرها إلى اللغة العربية، وهذا كان سببا في ظهور شخصيات وعلماء عظام حينها.
في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي برز أحد أطباء الحضارة الإسلامية في القرون الأربعة الأولى، وهو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، الذي ولد في الري قرب طهران عام 864م، ووافته المنية في مدينة بغداد في شهر شعبان عام 925م.
كان الرازي يحب العلم، كما اشتهر بذكاءه وفطنته.
ويشهد ببراعة الرازي عدة مستشرقين غربيين، وكانوا يصفونه بـ (Rhazes)، فقد قال عنه ستابلتون الإنجليزي "بقي بلا ندّ حتى بزوغ فجر العلم الحديث بأوروبا".
قامت مدرسة الطب في باريس بتعليق صورة ملونة للرازي جنب صورة ابن سينا وابن رشد، كما قامت جامعة برنستون الأميركية بتخصيص أفخم ناحية في أجمل المباني كي تعرض مآثره.
كما وصفه مؤرخو الطب في الحضارة العربية بنفس الوصف فقد قال فيه القفطي في كتاب "تاريخ الحكماء":
"محمد بن زكريا أبو بكر الرازي طبيب المسلمين غير مدافع وأحد المشهورين فِي علم المنطق والهندسة وغيرهما من علوم الفلسفة".
فما الذي فعله هذا الرجل في مجال الطب منذ ألف عام حتى يحظى بتلك المكانة المرموقة إلى وقتنا الحالي؟
تعلم الرازي على كبر فقد كان في العقد الثالث من عمره، وعندما دخل إلى بغداد قادما من الري زار أهم مشافيها في ذلك الوقت وهو "البيمارستان العضدي".
تم بناؤه من قبل عضد الدولة البويهي في القرن الثالث الهجري، سأل عن الأدوية، وشاهد عدد من الحالات المرضية الغريبة أثناء نقاشات الأطباء واقتراحاتهم.
درس الرازي الطب، وبعدها عمل في مشفى الري، وبعدها انتقل إلى بغداد، إذ قام بالإشراف على بناء البيمارستان العضدي.
إذ ظهر ذكاءه من خلال قصة بناء هذا المشفى فقد سأله الأمير البويهي عن أهم المواضع من أجل بناء هذا المستشفى.
فأمر بعض الغلمان أن يُعلق في كل ناحية من جانبي بغداد شقة لحم، ثم اعتبر التي لم يتغيّر فيها اللحم بسرعة فأشار بأن يبنى في تلك الناحية، وهو الموضع الذي بني فيه البيمارستان.
وهذا المكان كان فعلاً أفضل مكان في بغداد من حيث نقاوة الهواء وجودته واعتداله، ولتلك العوامل أهمية كبيرة في علاج المرضى ضعيفي المناعات.
وعندما انتهى عضد الدولة من بناء المشفى أراد أن يضع رئيسا عالما بالطب، ويمتلك خبرة كبيرة بمجالاته، فقام بجمع أمهر أطباء بغداد فبلغ عددهم مئة من ضمنهم أبو بكر الرازي.
وبعدها اختبرهم واختار خمسون طبيباً ومن ضمنهم الرازي، ثم اختبرهم ثانية وأخذ منهم عشرة ومن ضمنهم الرازي.
ثم اختار ثلاثة من ضمنهم الرازي، وبعد أن قارن بينهم وجد أن الرازي أفضلهم، فقام بتعيينه "ساعور" لأطباء البيمارستان العضدي.
جاء غلاما من بغداد إلى الري ينفثُ الدم من فمه ولا يعلم ما هو مرضه، وعندما استدعوا أبو بكر الرازي بالحذق، شاهد حالته ووصف له المناسب، إذ أخذ الرازي مجسّه، ورأى قارورته، وسأله عن وضعه منذ البداية، لم يجد اي دليل قاطع أنه مريض سُل أو قرحة، ولم يعلم مرضه،
استاء المريض من ذلك وقال: هذا أيأس لي من الحياة لحذق الطبيب وجهله بالعلة،
مما زاد من ألمه، عندما رجع الرازي إلى المريض، وسأله عن المياه التي شربها في طريقه، فأجاب بأنه شرب من مستنقعات وصهاريج، عندها عرف الرازي أنه كان يوجد عَلَقَة في الماء وقد حَصَلَت في معدته، وذلك الدم من فعلها.
وقال له: "إذا كان في غد جئتك فعالجتُك ولم أنصرِفْ حتى تبرأ، ولكن بشرط أن تأمرَ غلمانك أن يطيعوني فيك لما آمرهم".
فقال: نعم؛ وذهب الرازي وقام بجمع وعائين كبيرين من الطحالب وأحضرهما معه في اليوم التالي وقال له: ابلع، فقال:
لا أستطيع، فقال الرازي للغلمان: خذوه فأنيموه، نفذ الغلمان ذلك، وطرحوه على ظهره وفتحوا فمه، وأخذ الرازي يدسّ الطحلب في حلقه ويكبسه بشكل شديد ويطلب منه أن يبلع مهدداً إياه بالضرب.
حتى أبلَعه وعاء كاملا، والرجل يستغيثُ لكن ذلك لم يجد نفعا مع الرازي، حتى قال المريض:
الساعة أقذف "القيء"، عندها زاد الرازي في ما يكبسه في حلقه، فذرعه القيء حتى قذف، فتأمل الرازي قذفة ووجد فيه عَلقَة (ديدان)، وعندما وصل إليها الطحلب اتجهت إليه لتتغذى عليه، ونهض المريض معافى.
ألف الرازي الكثير من المؤلفات المتنوعة منها رسائل وكتب في كل مواضيع العلوم الطبية في زمانه، وأهمها:
منها كتاب عن "الجدري والحصبة" وهو أشهر أعماله، بين من خلاله اهتمامه بعلم المداواة، ويختلف تعمقه فيه بشكل واضح صمت المقالات الهلينستية والبيزنطية التي نعلمها عن هذا الموضوع، وأن الجدري حتى العصر المعاصر أحد أسباب العمى في العالم العربي، وأشهر تعقيداته هي الندبات القرنية وإتلاف القرنية نتيجة البثرات.
يتحدث فيه عن علاج الجدري قائلاً: "إذا بَدَت أمَارَات الجدري فابدأ بالفصد، وَإِن لم يتَمَكَّن فالحجامة إِن كَانَت القُوَّة ضَعِيفَة. وَإِذا خرج فَاسق مَاء الشّعير مَعَ عدس مقشر مطبوخ.
قبل أَن يظْهر فِي العين جدري فقطر فِيهَا مَاء ورد قد أنقع فِيهِ سماق أَو مَاء شَحم الرُّمَّان.
فَإِن ظهر فِي الْعين جدري فقطر فِيهِ كحلاً قد حككته بِمَاء الكزبرة الرّطبَة أَو بِمَاء كزبرة يابسة قد طُبخت بِمَاء المَطَر.
واسقه طبيخ اللك والعدس والتين ليسرع الْخُرُوج، وَلَا تغذه بفروج وَلَا بِغَيْرِهِ مِمَّا يُشبههُ حَتَّى تبطل الحمى الْبَتَّةَ ويخف الجدري، واجعَل غذاءه الماش والعدس والبقول".
كما كتب في أخلاقيات مهنة الطب الرسالة المهمة "أخلاق الطبيب" قبل ألف سنة وقد نصح الأطباء فيها قائلاً:
"اعلم أنه من أصعب الأشياء للطبيب خدمة الأمراء، ومعالجة المترفين والنساء، فإن الطبيب الحر السيرة إذا اشتغل بصناعته.
وحفظ الخاصة والعامة، فإنه يعيش بخير، ويكون عليهم أميرا، وإذا توسّم بخدمة الملوك، ربما صار بخدمتهم أميرا لا سيما إذا كان الملك عاميا".
كما شهد الطب تطورا ملحوظا بعد الرازي في القرن الرابع والخامس الهجري.
إذ شاهدنا في الحضارة العربية الإسلامية تطور العلوم والمعارف الطبية في المجالين النظري والعملي، ويبقى الرازي نابغة زمنه علماً وعملاً.
تساعدك أداة محول العملات على تحويل قيمة أي عملة إلى أي عملة أخرى.