كثيرًا ما نصادف كلمة صعاليك عند مطالعة كتب الأدب والتاريخ، ونتساءل عن مفهومها، وعن الصعاليك وصفاتهم، وخصائص شعرهم، والامتداد الزمني لهم، وسنحاول جاهدين كشف اللثام عن الصعلكة والصعاليك.
إذا نظرنا إلى كلمة صعلوك من الناحية اللغوية؛ فإنها تعني الفقير الذي لا مال له، ولكن هذه الكلمة قد استعملت منذ الجاهلية لتدل على فئة فقيرة احترفت الغزو والإغارة على القبائل من أجل تأمين قوت يومها، ومساعدة غيرها من الفقراء.
وكأن المجتمع الجاهلي ينقسم إلى: صعاليك وأغنياء، أو صعاليك وفتيان كما رأى الكاتب أحمد أمين.
ومن الجدير بالذكر أن الصعلكة في الجاهلية كانت محمودة في بعض الأحيان، وبخاصة عندما نرى التضامن الاجتماعي عند الصعاليك، وعدم إغارة كثير منهم على الأغنياء الكرماء، وإنما كانوا يغيرون على الأشحاء، وكأن الصعلوك هنا يحاول إحداث نوع من التوازن الاجتماعي بسرقة مال الغني وتوزيعه على الفقراء.
ولهذا نجد أن معاوية بن أبي سفيان يتمنى لو كان لعروة بن الورد ولد، فيصاهره، وكذلك عبد الملك بن مروان يتمنى لو كان نجلاً لعروة.
لا شك أن هناك فروقا فردية بين الصعاليك، ولكن هناك صفات كثيرة اشتركوا فيها من أهمها:
نحول الجسم، بسبب قلة الطعام - الشجاعة والإقدام - سرعة العدو، لذلك سموا بالعدّائين - الخطف السريع مثل الذئاب، لذا سموا ذؤبان - المساواة بين الصعاليك في تقسيم الغنائم، فلا فرق بين رئيس الصعاليك وأي فرد من أفرادهم.
الإغارة على الأشحاء الذين لا يعطون للفقراء شيئًا، وعدم الإغارة على الأغنياء الكرماء - الخبرة الواسعة بالطرق، وكيفية الحصول على الماء - الإغارة على المناطق الخصبة.
إن اللصوصية والصعلكة تتفقان في أن كل منهما عبارة عن سرقة ونهب أموال الآخرين والإغارة عليهم، ولكن بينهما فروقًا جوهرية، فليست كل لصوصية صعلكة.
فاللصوصية تكون سلب ونهب من الأغنياء سواء كانوا أشحاء أم كرماء، وسواء كان اللص فقيرًا أم غنيًا، ولا يشترط فيها التقسيم العادل بين اللصوص.
أما الصعلك؛ فهي سرقة مال الغني الشحيح، وتقسيم هذا المال بالتساوي على الصعاليك.
يعد العصر الذهبي للصعلكة، وقد اشتهر فيه الكثير من الصعاليك، وأسباب ظهور الصعاليك في العصر الجاهلي:
أولًا: البيئة والحياة القاسية: لقد كانت الصعلكة نتاجًا طبيعيًا لهذه البيئة القاسية التي يعز فيها حتى الماء، والتي يأخذ فيها رؤساء القبائل الخيرات لأنفسهم، ويتركون الفتات لباقي القبيلة.
ثانيًا: عدم وجود نظام يقوّم المخطئ: لقد كانت القبائل تخلع -تطرد- من يقوم بجريمة، وإذا كان هذا الشخص ارتكب جريمة من قبل، فما يمنعه إن ضاقت به سُبل العيش أن يحترف السرقة والنهب، فعلى الأقل هذا ليس مذمومًا كجريمته السابقة.
ثالثًا: عدم اعتراف الآباء بأبناء الحبشيات السود: لقد جرت العادة في الجاهلية على أن أبناء الإماء يظلون يتجرعون الظلم والذل، ولا يعترف بهم آباؤهم، بل ربما وصل الأمر لازدرائهم من الآخرين.
هذا ما جعل هذه الفئة تثور على ذلك الوضع المهين، وتحترف السلب والنهب والإغارة، ليصبح لها كيان وهيبة، ولتحصل على قوت يومهم، ومن أشهر هؤلاء تأبط شرًا والشنفرى.
رابعًا: الرغبة في مساعدة الفقراء والضعفاء: في أزمنة القحط والمجاعة كان الفقراء والضعفاء والمرضى يأتون إلى أمير الصعاليك عروة بن الورد، لينقذهم من الجدب، فكان يخرج للغزو، ويقسم المال بينهم قسمة العدل.
الخلعاء الشذاذ: وهم الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائمهم، مثل: حاجز الأزدي، وقيس بن الحدادية، أبناء الحبشيات السود، وهم أبناء الحبشيات الذين رفض آباؤهم الاعتراف بهم ونبذوهم، مثل تأبط شرًا، والشنفرى، والسليك بن السلكة، ومن احترف الصعلكة، وقد يكون فرداً مثل عروة بن الورد أو قبيلة بأكملها مثل قبيلة هذيل، وفهم.
الصعاليك في العصر الإسلامي
لقد جاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق، وليُصلح الأنظمة الاجتماعية الفاسدة في المجتمع، ولينصر المظلومين، ويساعد الفقراء؛ ولهذا فلقد كانت الصعلكة ظاهرة قليلة جدًا في ذلك العصر، وفي الغالب كان الصعاليك مخضرمين، بمعنى أنهم احترفوا الصعلكة في العصر الجاهلي مثل أبي خراش الهذلي، ويمكن إرجاع ذلك العوامل الآتية:
أ) فرض الزكاة والكفارات وندب الصدقات
لو نظرنا إلى أهم سبب لظهور الصعلكة فسنجد أنه الفقر الشديد، وشح الأغنياء، وعدم مساعدة الفقراء؛ لذلك لما فرض الله الزكاة، وندب الصدقات والبذل والعطاء، وكان الولاة يتحرون إخراجها للمستحقين، لم يعد الصعاليك بحاجة للسرقة من أجل العيش، وكذلك قلّ أو لنقل انعدم حقدهم على الأغنياء.
ب) الفتوحات الإسلامية
كان للفتوحات الإسلامية أثر عظيم في اتساع الرقعة الإسلامية، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، علاوة على الغنائم والأموال والكنوز التي أغنت المسلمين، فهذه الفتوح أنقذت الكثيرين من الفقر الشديد، فلما اغتنت الناس بالحلال لم يعد هناك سببًا للصعلكة.
ج) الصعلكة فعلًا مذمومًا في الإسلام
كان الصعاليك في الجاهلية لا يخجلون من النهب والسلب، بل كانوا يفتخرون بذلك، ولكن الصعلكة في الإسلام أصبحت محرمة، ولم تعد مفخرة كما كانت في السابق.
لقد امتزج العرب بالعجم في هذا العصر امتزاجًا شديدًا، وأخذ كل منهما من ثقافة الآخر، فظهر نوع جديد من اللصوصية يعتبر امتدادًا للصعلكة، ولكنه يختلف عنها، فهو يتفق معها في الوسيلة وهي النهب والسلب، ويختلف في الغاية، فيسرق الكرماء والبخلاء على حد السواء.
وقد أطلقوا على أنفسهم أسماء غير الصعاليك، فوجدنا الشطار، وقد تأثر الأدب الإسباني بهم كثيرًا، وأثر في الأدب الأوربي.
أما اليوم؛ فقد أصبحت كلمة صعلوك تطلق على الحقير أو الفقير الذي لا مال له، كما استخدمها الناس في أمثالهم، مثل المثل الشهير :”تروح فين يا صعلوك بين الملوك”.
كما وُجدت فئات احترفت الغزو والسلب والنهب، ومنهم المطاريد، وهم يشبهون الخلعاء الشذاذ من الصعاليك، فقد طردوا أو هربوا بسبب جرائمهم.
أولًا: الوحدة الموضوعية
لقد أثرت حياة الصعاليك على شعرهم، فكانوا ينظمون قصائدهم عن موضوعات مثل الفقر والغزو والشجاعة، ولا يعددون في الأغراض بين غزل ووصف للصحراء والناقة، وغيرها كما وجدنا عند شعراء المعلقات.
فقد كانت قصائد الصعاليك أقرب إلى مقطوعات، وإذا طالت القصيدة، فإنها تدور في فلك واحد، وتتعالى فيها الصيحات عن الفقر والبؤس والحرمان، ووصف حياة الصعاليك ومعاناتهم.
ثانيًا: السرعة والتدفق
لا شك أن حياة الصعاليك كانت مليئة بالمخاطر والمخاوف، وكانوا يفعلون كل شيء بسرعة، فيغزون بسرعة، ويهربون بسرعة، وهذا قد وجد في أشعارهم.
فلم يكونوا مثل أصحاب الحوليات يهذبون القصيدة مرات عدة، وإنما كانوا يكتبون قصائدهم في عجلة، ولعلنا نلمس هذه السرعة في اختيارهم للبحور الشعرية التي ينظمون عليها، فغالبًا ما كانوا يستعملون الرجز.
ثالثًا: الغزل والمرأة
إن الغزل عند الصعاليك يختلف عن غيرهم من الشعراء، فقد كانوا يصفون جمال المرأة الروحي، ويتحدثون عن جمال أخلاقها، وغالبًا ما تكون المرأة في حياتهم هي الزوجة، وما أجمل تلك الأبيات التي وصف بها الشنفرى زوجه، حيث يقول:
لَقَد أَعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها.. إِذا ما مَشَت وَلا بِذاتِ تَلَفُّتِ
تَبيتُ بُعَيدَ النَومِ تُهدي غَبوقَها.. لِجارَتِها إِذا الهَدِيَّةُ قَلَّتِ
تَحُلُّ بِمَنجاةٍ مِنَ اللَومِ بَيتَها.. إِذا ما بُيوتٌ بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ
كَأَنَّ لَها في الأَرضِ نِسياً تَقُصُّهُ.. عَلى أَمَّها وَإِن تُكَلَّمكَ تَبلَتِ
أُمَيمَةُ لا يُخزى نَثاها حَليلَها.. إِذا ذُكَرِ النِسوانُ عَفَّت وَجَلَّتِ
إِذا هُوَ أَمسى آبَ قُرَّةَ عَينِهِ.. مَآبَ السَعيدِ لَم يَسَل أَينَ ظَلَّتِ
وقد ذكر غير واحد من النقاد أن هذه أروع أبيات قيلت في عفة المرأة وطهارتها، وقد كثر تحدث شعراء الصعاليك عن لوم زوجاتهم لهم بسبب الغزو، مثل ما حدث مع عروة وسلمى الكنانية.
رابعًا: كان شعر الصعاليك مرآة صادقة لحياتهم: فقد وصفوا غزواتهم، وكيفية تقسيم الغنائم، وكيف كانت أجسامهم نحيلة وهزيلة، وكيف عانوا من حياة الصحراء.
خامسًا: وجود بعض الألفاظ من الغريب والحوشي
المصادر:
الصعلكة والفتوة في الإسلام، أحمد أمين، مؤسسة هنداوي، طبعة أولى.
تاريخ الأدب الجاهلي، دكتور شوقي ضيف، ص 375، 376، دار المعارف بمصر، الطبعة الحادية عشر.
تساعدك أداة محول العملات على تحويل قيمة أي عملة إلى أي عملة أخرى.