يقال "أبصر من زرقاء اليمامة" استطاعت أن تعد سرب من الحمام هبط لشرب الماء.. من هي زرقاء اليمامة وما قصتها
تاريخزرقاء اليمامة.. بين الأسطورة والحقيقة والعبرة
أبصرُ من ” زرقاء اليمامة “.. لطالما سمعنا هذا المثل يُضرب لكل من امتاز بحدة البصر، ولطالما عرفنا أن لكل مثلٍ قصة خلفه، هذه القصة التي خرج بها كما خرجت الأمثال القديمة من حكاياتٍ تاريخية نستقي منها الحكمة والعبرة.
وقد مرت هذه الأمثال عبر الزمان لسنين طويلة وقرونٍ عديدة حتى بلغتنا، ولكن من هي زرقاء اليمامة ، ولمَ ضُرب بها مثل حدة البصر؟! لنتعرف عليها أكثر.
زرقاء اليمامة التي امتازت بعينيها الكبيرتين وحدّة بصرها
زرقاء اليمامة هي امرأةٌ من شبه الجزيرة العربية، كانت تسكُن منطقة اليمامة، ومن المرجَّح أن الأخيرة قد سُميت باسمها كما ذُكر في كتاب (العقد الفريد) للشاعر والأديب والإخباري الأندلسي الشهير ابن عبد ربه.
ويُقال بأن اسمها كان “عنز” وسُميت بـ”زرقاء اليمامة” نظراً لامتلاكها لعينين زرقاوين حادتيّ النَظَر.
وقد استرسلت بعض القَصص في الحديث عن حدة بصرها ، وهي التي كانت تستطيع أن ترى بكل براعة ودقة ما لا يبصره غيرها، حيث تمتعت بعينيها ثاقبتي الرؤية.
كما ضُربت بها الأمثلة من قبل كبار الشعراء منذ قديم الزمان، وما زالت حتى هذا اليوم تُذكر في القَصص في خضم ضرب الأمثلة على حدة البصر، وسنتعرف على القصص الفريدة التي تناولتها مجموعة الشخصيات المشهورة في التراث العربي والإسلامي.
زرقاء اليمامة من بنات لقمان بن عاد
يُقال بأن زرقاء اليمامة كانت من بنات لقمان بن عاد وفقاً لما يخبرنا به أبو القاسم الزمخشريّ في كتابه (المستقصى في أمثال العرب)، ويقول أيضاً بأن منطقة اليمامة قد سُميت على اسمها وكانت تُسمى سابقاً بـ”جو”، وقد ذكرها أبو الطيب المتنبي بهذا الاسم في أحد أشعاره .
ويقول الزمخشري نصَّاً” هي من بنات لقمان بن عاد ملكة اليمامة، واليمامة اسمها فسميت به البلدة كما قيل في حمير، وقيل اسمها عنز، وهي إحدى الزرق الثلاث، أعنيها والزباء والبسوس”.
وأضاف “كانت جديسية، وحين قتلت جديس طمساً؛ استجاش رجلٌ طسمى حسان بن تبع إلى اليمامة، فلما صاروا من جو على مسيرة ثلاث؛ صعدت الأطم الذي يقال له الكلب، فنظرت إليهم، وقد استتر كل شجرة تلبيساً عليها، فارتجزت بقولها ” أقسم بالله لقد دبَّ الشجر.. أو حمير أخذت شيئاً تجر”.
فكذبها قومها، فقالت “والله أرى رجلاً ينهش كتفاً أو يخصف نعلاً”، فلما تأهبوا حتى صبحهم الجيش، وقال الأعشى يقص ذلك:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها.. حقاً كما صدق الذئبي إذ سجعا
إذ قلبت مقلة ليست بمقرفة.. إنسان عين ومأقا لم يكن قمعا
فنظرت نظرة ليست بكاذبة.. ورفع الآل رأس الكلب فارتفعا
قالت أرى رجلا في كف كتف.. أو يخصف النعل لهفي أية صنعا
فكذبوها بما قالت فصبَّحهم.. ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا
فاستنزلوا أهل جو من مساكنهم.. وهدموا شاخص البنيان فاتضعا
ويضع المؤرَّخ العراقي الشهير جواد علي، قبيلتا جديس وطسم ضمن قائمة الأقوام العربية البائدة، وذلك وفقا لما أورده في كتابه “المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام”.
ويقول الزمخشري إن زرقاء اليمامة هي أول من اكتحل بالأثمد من العرب، حيث قال لها حسان: “ما كان طعامك، فقالت: ورمكة في كل يوم بمخ عنوق، وقال: فبم كنت تكتحلين، قالت بغبوق من صبر وصبوح من أثمد، وشق عينها؛ فرأى سودا من الأثمد”.
زرقاء اليمامة تعدّ سرب الحمام
ذكر لنا سيبويه في كتاب “الكتاب” أن زرقاء اليمامة استطاعت أن تقدّر عدد حمامٍ هبط لشرب الماء، وكان تقديرها في محله، وهكذا ضُرب لها المثل في الحكمة وقدرتها على تمييز الصواب من قبل النابغة الذبياني.
زرقاء اليمامة ترى من على بُعد ثلاثة أيام
وفقاً لكتاب (العقد الفريد) للشاعر الأندلسيّ ابن عبد ربه؛ فإن زرقاء اليمامة كانت تستطيع رؤية الشعرة البيضاء في اللبن! وكان بإمكانها رؤية الراكب على بُعد ثلاثةِ أيام، أي مسافة تحتاج مسيرة ثلاثة أيام من المكان الذي تقف به.
ولطالما كانت تحذّر قومها من الجيوش التي تريد غزوهم قبل وقتٍ كافٍ ليستطيعوا الدفاع عن أنفسهم من خلال رؤيتها لهم من مسافةٍ بعيدة.
زرقاء اليمامة وذكرها من قبل كبار الشعراء
حظيت زرقاء اليمامة بعناية واهتمام كبيرين من قبل كبار الشعراء الذين امتدحوها في قصائدهم، ونرى ذلك عندما أراد النابغة الذبياني أن يضرب مثلاً في الحكمة والنظر الحاد الصائب الدقيق في معلّقته، فذكر موقف الحمام الذي حدث مع زرقاء اليمامة بقوله:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام شراع وارد الثمدِ
تحفه جانباً بير ويتبعه مثل الزجاجة لم تكحل من الرمدِ
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقدِ
فحسبوه فألفوه كما حسبت تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزدِ
فكملت مائة منها حمامتها وأسرعت حسبة في ذلك العددِ
وذُكرت هذه الحادثة في كتاب (خزانة الأدب) لعبد القادر البغدادي، كما أن المتنبي قد امتدح نفسه بأنه يستطيع أن يبصر أكثر من زرقاء اليمامة، وقصد بذلك أنه يراه عن طريق علمه وخبرته قبل أن يراه بأم عينيه، وقد أسماها في شعره بـ ”زرقاء جو”، وهذا هو البيت:
“وأبصرَ من زرقاءِ جَوٍّ لأنّني.. متى نَظَرَتْ عَينايَ ساواهما عِلمي”.
حادثة موت زرقاء اليمامة
كانت واقعة موت زرقاء اليمامة حادثةً مؤلمة أوقعها بها الأعداء حينما لم يستمع إليها أفراد قبيلتها، فقد كانت زرقاء من قوم جديس وهم من العرب البائدة، وقد تعرضت هذه القبيلة للانقراض ولم يعد لذكرها محل إلا مع قبيلة طسم التي كانت تسكن اليمامة معها.
وهناك أقوال تفيد بأن جديس كانت تتبع لقبيلة طسم، وعلى كل حال فإن القبيلة الأولى أقدمت على قتل رجلٍ من نظيرتها الثانية، فتم تجهيز جيشٍ ليذهب إلى جديس للانتقام من قبل حسّان بن تُبع.
وكان الأخير قد أعدّ خطةً للإيقاع بهم بعد معرفته بورقتهم الرابحة “زرقاء” التي تتميز بقدرة بصرها الحادة، فطلب من أصحابه أن يختبئ كل فردٍ منهم خلف شجرةٍ يمسك بها ويسير معها حتى لا تراه، وقد رأت زرقاء الأشجار بالفعل وأخبرت قومها أن هناك أشجاراً تتحرك، قائلةً: “إني أرى الشجر قد أقبل إليكم”!.
فلم تلق منهم إلا السخرية متهمين إياها بالخرف، حتى أنهم قد زعموا أنها فقدت قدرتها القوية على الإبصار وأنها تتخيل فحسب، فلم يتحركوا ساكناً، وهكذا استطاعت طسم الإغارة على قبيلتها بشكلٍ مفاجئ وقتلت منهم الكثير ومن بينهم “زرقاء اليمامة”.
هذا ما ذُكر من قبل عبد القادر البغدادي، وقد قيل أيضاً إن طسم قد قامت باقتلاع عيني زرقاء بعد مقتلها.
ويُقال بأن مادةً سوداء قد سالت من عروق عينيها وهي بسبب اكتحالها منذ الصغر بحجر الأثمد، وهو حجرٌ يساعد في علاج أمراض العين، ويدخل الرصاص في تركيبه وفقاً لكتاب “الأحجار الكريمة” لمروان أبو النعيم.
وكانت زرقاء اليمامة من العرب الأوائل الذين اكتحلوا بهذا الحجر، ومع ذلك فلا يمكن تأكيد صحة هذه الرواية بالفعل والعلم عند الله، ولكننا نستطيع الآن معرفة معنى هذا المثل “أبصر من زرقاء اليمامة”!
أين ذهبت اليمامة المرافقة لأسطورة زرقاء اليمامة؟
اليمامة هي موطن أسطورة أو حقيقة “زرقاء اليمامة” وقد تناولها المؤرخ العراقي الشهير جواد علي بالشرح وذلك في كتابه “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، مستنداً في ذلك إلى وصوفات ابن الحائك الهمداني في كتابه المرجعي “صفة جزيرة العرب”، إلى جانب الروايات التي نقلها الجغرافيون والرحالة اليونانيين القدماء.
ويقول جواد علي: ” .. ويظهر أن هناك جملة عوامل أثَّرت في اليمامة وفي أواسط جزيرة العرب، فحولت أراضيها إلى مناطق صحراوية، على حين أننا نجد في الكتب أنها كانت غزيرة المياه، ذات عيون وآبار ومراعٍ”.
وقد وصف الهمداني بعض التحصينات القوية التي كانت في اليمامة، والتي رأى أنها من عاديات طسم وجديس البائدتين، مثل حصن مرغم والقصر العادي بالأثل.
أما جون فيلبي- وهو المستعرب والمستكشف، وضابط الاستخبارات في مكتب المستعمرات البريطاني الذي اعتبر أول أوروبي يقطع صحراء الربع الخالي وذلك في الربع الأول من القرن العشرين-، فيحيل الخراب الذي أصاب اليمامة إلى العوامل الطبيعية التي يتصدرها فيضان وادي حنيفة.
المصادر:
- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي.
- المستقصى في أمثال العرب للزمخشري.
- المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء.
- أخبار الزمان للمسعودي.