في العالم القديم، قبل الميلاد لم تكن الدول على ما كانت عليه الآن، ففي القرن السادس الميلادي تكاد تنحصر الإمبراطوريات الكبرى في الإمبراطورية الإخمينيّة الفارسية.
والتي ورثت بابل وآشور القديمتين، وبين مصر الفرعونيّة القديمة وبعض الممالك الصغيرة على ساحل الشام والمستعمرات الفينيقية على البحر المتوسط.
إضافةً إلى الممالك الصغيرة الأخرى في اليونان التي انطـ.ـلق منها لاحقاً الإغريق، لكنّ هذا التقرير عن الإمبراطور قمبيز الثاني، فما حكايته؟
يعرف قورش العظيم باعتباره أكبر أباطرة الفرس في التاريخ تقريباً فهو الإمبراطور الذي قضـ.ـى على إمبراطورية بابل وإمبراطورية ليديا وضمّ أيضاً أملاك الفينيقيين إلى إمبراطوريته.
فأصبحت فارس (الإمبراطورية الإخمينية حينها) قطب العالم الأكبر في ذلك الوقت، لكنّ حلمه لم يكتمل في حياته بأنّ يضمّ الدولة المصريّة إلى حكمه.
لكنّ ابنه قمبيز الثاني الذي حكم سنين أقلّ بكثير من سني حكم أبيه، استطاع أن يغـ.ـزو مصر ويخضعها لسلطانه، لكنّ هذا الانتصار وغيره من الانتصارات التي حققها قمبيز في 8 سنوات فقط قضت على حلم أبيه بإمبراطوريةٍ ضخمة وموحّدة يرثها أولاده وأحفاده من بعده.
حكم الإمبراطور قمبيز الثاني ما بين عامي 530 إلى 522 قبل الميلاد، وهو الملك الثاني للإمبراطورية الأخمينية التي أسسها أبوه كما ذكرنا سابقاً.
يُصوّر لنا المؤرخ اليوناني هيرودوت قمبيز الثاني على أنه ملكٌ مجنون ارتكب العديد من أعمال التنـ.ـكيل أثناء إقامته في مصر، بما في ذلك ذبـ.ـح العجل المقدّس في مدينة أبيس.
لكن يبدو أن هذا التأريخ مُستمدٌ في معظمه من التقاليد الشفاهيّة المصرية، وبالتالي قد يكون متحيزاً بعض الشيء في حكمه.
خصوصاً إذا علمنا أنّ هيرودوت كان يحاول من خلال سرده أن يجيِّش اليونانيين على الاتّحاد لمواجـ.ـهة هذه الإمبراطورية والسطوة على ممتلكاتها الضخمة اللانهائيّة.
كان قمبيز الابن الأكبر للإمبراطور قورش العظيم وزوجته كاساندان، ولديه شقيقٌ أصغر اسمه سميرديس، وفي وقتٍ مبكر من عام 539 قبل الميلاد، عندما غزا قورش مدينة بابل وضمّها لحكمه، شغل قمبيز منصب ولي العهد.
وفي الوثائق البابلية التي يرجع تاريخها إلى الفترة ما بين أبريل/نيسان وديسمبر/كانون الأول من عام 538 قبل الميلاد، يوصف قمبيز بأنّه “ملك بابل”، بينما كان لقب أبيه قورش “ملك الأراضي”، وربما عُيِّن قمبيز حينها ملكاً لبابل استعداداً لخلافة العرش الفارسي.
بدأ عهد قمبيز ملكاً لبابل من خلال مشاركته في حفل رأس السنة البابلية في 27 مارس/آذار 538 قبل الميلاد، وكان الدور الأكثر أهمية لحفل رأس السنة البابلية، هو نقل الشرعيَّة الإلهية إلى الملك البشريّ الحاكم.
تصف بعض النصوص قمبيز بأنّه لم يكن ملتزماً أثناء الحفل بالمظهر الذي كان يجب أن يكون عليه، مما أساء إلى الكهنوت البابلي.
وربما كان هذا السبب وراء تنحيه عن ملك بابل لاحقاً، وبقي قمبيز نشطاً أثناء حكم أبيه قورش، وظهر اسمه في العديد من الوثائق القانونية من بابل وسيبر.
عندما توفي قورش في شهر ديسمبر 530 قبل الميلاد، خلفه ابنه ووريثه قمبيز الثاني دون أيّ مشـ.ـكلة، وقد كانت السنوات الأولى لحكم قمبيز هادئة نسبياً، على الـرغـ.ـم من أن المجـ.ـاعة التي حدثت في بابل بين عامي 528 و 526 قبل الميلاد قد تكون أدّت إلى شائعات بأن الآلهة لا يوافقون على الملك الجديد.
تذكر لنا بعض النقوش القديمة سلسلةً طويلة من الأحداث التي أعقبت وفاة قورش منها أنّ قمبيز الثاني قـ.ـتـ.ـل شقيقه الأصغر سميرديس خلال السنوات الأولى من حكمه، ولم يكن معروفاً بين الناس حينها أن سميرديس قد قُـ.ـتـ.ـل.
أمّا المؤرِّخ اليوناني كتسياس فيخبرنا أنّ قورش قد عين سميرديس في منصب “كساتراب” وهو حاكم المُقاطعة في الدولة الفارسية القديمة.
وهو منصبٌ مخصص عادة لوليّ العهد، وبما أن قمبيز الثاني لم يكن له وريث فقد كان سميرديس هو التالي في خطّ الخلافة، وربما خاف قمبيز من موقف شقيقه الأصغر القوي، فقـ.ـتـ.ـله سراً.
قمبيز الثاني يحقق حلم والده ويغـ.ـزو مصر حلم قورش العظيم كما ذكرنا سابقاً بضمّ مصر إلى أراضيه، لكي يكتمل له حكم العالم القديم تماماً، لكنّ حلمه لم يتحقق حتى وفاته.
لكنّ ابنه قمبيز الثاني استطاع تحقيق حلم والده، فقد بدأ التجهيز للحملة على مصر طيلة أول أربع سنوات من حكمه، وهنا يروي لنا هيرودوت قصّة طريفة، هي القصّة التي أعطت قمبيز الثاني الفرصة لغزو مصر والسيطرة عليها.
في عام 525 بعث قمبيز الثاني لفرعون مصر حينها أحمس الثاني يطلب منه تزويجه ابنته، لكنّ أحمس كره تزويج ابنته لقمبيز، فصنع خدعةً انكشفت لاحقاً بأن أرسل له ابنة الفرعون السابق عليه “أبريس”، وعندما اكتشف قمبيز الخدعة قرر غزو مصر.
وفي طريقه إلى مصر، عاجل الموت الفرعون المصري أحمس الثاني، الذي فيما يبدو كان يتمتّع بمهارةٍ حـ.ـربية وعسكرية فائقة، وتولّى مكانه ابنه سمباتيك الثالث. كان قمبيز على الناحية الثانية قد عقد اتفاقاً مع ملك جزيرة “ساموس” ليمدّه بأسطوله البحريّ الضخم.
كانت مصر معروفة في عهد أحمس الثاني بتقدِّمٍ كبير واستقرارٍ طوال فترة حكمه ومع ذلك، كانت هناك بعض نقاط الضعف التي بدا أنها تُشكل خطـ.ـراً واضحاً في بنية الدولة.
وهي أن الجيش المصري كان مُكوناً بشكلٍ رئيسي في ذلك الوقت من العديد من المـ.ـرتزقة الأجانب، مما جعلهم موضع شك.
وكانت نتيجة هذا أن أحد قادة الجيش، المسمّى فانيس قد انضم إلى صفوف جيش قمبيز فجأةً وأبلغه بخطط ومواقع الجيش المصري على الطرق الصحراوية، سار قمبيز مع جيشه على طول ساحل البحر المتوسط، يسانده أسطولٌ فينيقيّ قوي.
حاول بسماتيك الثالث إيقاف الأسطول الفينيقي، فقد كان يأمل أن تكون مصر قادرة على الصمود في وجه التـ.ـهديد بالهـ.ـجـ.ـوم الفارسي من خلال التحالف مع اليونان، لكنّهم فضَّلوا الانضمام للفرس، وبقي بسماتيك وحيداً دون حلفاء.
وفي 5 مايو/أيّار، وصلت قوّات قمبيز إلى مدينة بيلوسيوم، حيث يصل الفرع الشرقي الأقصى لدلتا النيل إلى البحر الأبيض المتوسط، وهزمت القوات الفارسية القوات المصريّة في المعـ.ـركة واستمرّت في حصــ.ار ممفيس.
بعد سقوط ممفيس، واصل قمبيز مسيرته على طول نهر النيل وبحلول الخامس من شهر أغسطس/آب من نفس السنة كان برّ مصر بالكامل تحت سيطرة قمبيز الثاني.
ذهب قمبيز بعد ذلك إلى العاصمة المصرية صا الحجر، والتي يُطلق عليها أيضاً اسم سايس لتتويج نفسه فرعوناً، ثم تولى العرش المصري وشارك في الاحتفالات المصرية، كما فعل والده قورش عند فتح بابل.
وعلى الرغم من أن قمبيز لم يواجه الكثير من المتاعب أثناء غزوه الأولّ لمصر، إلا أن هناك بعض الأدلة تقول إنه واجه بعض المقاومة من السكان المحليين، منها نضال الحاكم المصري بيتوباستيس الثالث، والذي أقام في واحة الداخلة، وأرسل له قمبيز جيشاً لإخمـ.ـاد ثورته.
ولكن لا يُعرف على وجه الدقة ماذا حدث لجيش قمبيز، ربما يكون الجيش قد هُزم في المعـ.ـركة عدم الوضوح في هذا الحدث هو ما خلق في وقتٍ لاحق أسطورة جيش قمبيز المفقود.
روايةٌ أخرى ذُكرت في تأريخ هيرودوت، وهي أن جيش قمبيز كان في طريقه لهدم معبد آمون لأنّه أراد غزو بلاد النوبة وتنبّأ له كهنة آمون بهـ.ـزيمة ساحقة.
وحين تحرّك الجيش أُثيرت العواصف الرملية، ودفنت الجيش في الرمال ولم ينجُ منه أحد، وبحسب هيرودوت كان عدد الجنود نحو 50000 جندي.
في حين أن المصادر المعاصرة تصوِّر لنا قمبيز على أنّه ملكٌ رزين يستوعب الممارسات الثقافية والدينية للأراضي التي غـ.ـزاها بشكلٍ جيِّد.
إلّأ أنّ هيرودوت يصوّره لنا كملكٍ مجنون، ويتـ.ـهمه بتشويه وحـ.ـرق جثـ.ـة الفرعون أحمس الثاني الذي خدعه بعدم إرسال ابنته له لتتزوجه، كما ذبـ.ـح عجل أبيس المُقدس حديث الولادة، والذي كان يُعبَد إلهاً في الديانة المصرية القديمة.
بالإضافة إلى ذلك، يُفسر هيرودوت لنا قـ.ـتـ.ـل قمبيز لأخيه سميرديس وزواجه من شقيقتيه Roxane و Atossa كعلاماتٍ على جنونه، ووفقاً للموسوعة البريطانية، اتهـ.ـم المؤرخ اليوناني هيرودوت قمبيز بارتكـ.ـاب الكثير من الفظـ.ـائع في مصر.
وأرجعها إلى الجنون، لكنّ المصادر المصرية المعاصرة حتّى تشير إلى أن هذه الاتهـ.ـامـ.ـات كان مُبالغاً فيها إلى حد كبير، فعلى الأقل في بداية حكمه، كان قمبيز مُتبعاً لسياسة تصالحية وحكيمة.
تلقَّى قمبيز الثاني أنباء جديدة عن الثورات في بلاد فارس، وهو يحكم مصر، كانت الأنباء تشيرُ إلى أنّ سميرديس شقيقه يطالب بالعرش!
عند سماع قمبيز عن التمـ.ـرد، جمع جيشه واستعدّ للعودة إلى بلاده، واعترف لقادته أنّه قـ.ـتـ.ـل سميرديس الحقيقي سراً منذ سنوات وأن هذا الرجل الذي يدّعي كونه سميرديس ويُطالب بالعرش ما هو إلّا شخص كاذب.
لم يلتق قمبيز بسميرديس المُـ.ـزيف في أيّة معركة، ذلك أنّ قمبيز توفي في أبريل/نيسان من عام 522 قبل الميلاد بينما كان في طريقه إلى وطنه.
يزعم لنا هيرودوت بأنّ قمبيز قد توفِّي في بلدةٍ سورية بعد أن انزلق سيفه من غمده واختـ.ـرق فخذه في نفس المكان بالضبط حيث كان قد طعن عجل أبيس المقدّس عند المصريين قبل سنوات.
لكن يبدو أن هذه القصة مستمدة من الشهادات الشفوية للمصريين وهو ما يجعلها شهاداتٍ مُنحازة وغير موثوقة وتُرجح تفسيرات أخرى أن قمبيز رُبما يكون قد انتـ.ـحر أو اُغـ.ـتـ.ـيل من قبل قادته.
استمر سميرديس، إما الحقيقي أو المحـ.ـتال، في الحكم حتى سبتمبر/أيلول 522 قبل الميلاد حتى اغتـ.ـيل على يد سبعةٍ من النبلاء الفرس.
وكان زعيم هذه المؤامرة هو داريوس، والذي توج نفسه إمبراطوراً بعد ذلك، فقد ادّعى أنه ابن عمٍ بعيد لقورش وذكر أن الرجل الذي زعم أنه سميرديس كان محتـ.ـالاً.
نشبت حـ.ـربٌ أهلية، هزم فيها داريوس جميع الزعماء الانفصاليين وأعاد تأكيد سلطته على الإمبراطورية، واشتهر داريوس بتوحيد الفتوحات الأخمينية المبكرة وإعادة تنظيم الإمبراطورية الأخمينية، وهو المشهور في التاريخ باسم “دارا الأوّل”.
أما بالنسبة إلى قمبيز الثاني، فقد تدهـ.ـورت سمعته بسرعةٍ بعد وفاته، وقد كان مـ.ـوته الباهت بالنسبة للفرس علامة على أن قمبيز كان فاقداً للتأييد الإلهي.
وفي وقتٍ لاحق، تم إعادة تفسير جميع الأحداث التي دارت في عهده لتناسب هذا السرد، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ المصريين، الذين كانوا قد استاؤوا من الحكم الفارسي بحلول الوقت الذي كان يكتب خلاله هيرودوت تأريخه.
كانوا قد كوَّنوا سرداً حول قمبيز بوصفه ملكاً مجنوناً، لكن بالنظر إلى الأدلة المعاصرة يبدو أن قمبيز كان ملكاً مُنظماً وقد تابع سياسات والده وأكمل حلمه، الذي لم يستمر رغم ذلك!
المصادر: أوطان بوست
تساعدك أداة محول العملات على تحويل قيمة أي عملة إلى أي عملة أخرى.