اقتيد شاب إلى السجن وعندما زارته أمه في زنزانته أحضرت معها قهوته المفضلة، لكن جنديَّ الاحتلال انتزع منه الكوب وسكبه على الأرض.
انقضى وقت الزيارة، وعادت السيدة حورية إلى بيتها، فأطبق الشوق على محمود وكتب:
أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبُر في الطفولة
يوما على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا متُّ
أخجل من دمع أمي..
كان هذا في سجن الرملة في أراضي 1948 وعلى بعد 38 كيلومترا شمال غربي القدس المحتلة، وبعد ذلك بفترة كان فنان لبناني رهين محبسه ويحن لأمه هو الآخر، وأثناء تسلّيه في قراءة مجموعة من القصائد الشعرية، عثر على هذه الكلمات فغناها وأكسبها زخما كبيرا في الأوساط الثقافية في مختلف الأوطان العربية.
نزيل سجن الرملة هو أيقونة الشعر الفلسطيني محمود درويش، والفنان اللبناني الذي غني الأغنية هو مارسيل خليفة، وهذه هي قصة أغنية "إلى أمي" التي ترويها الجزيرة الوثائقية في فيلم قصير ضمن سلسلة بعنوان "حكاية أغنية" وبثتها في رمضان.
خلّف الشاعر الفلسطيني الراحل "محمود درويش" إرثًا شعريًا عظيمًا و من أعظم ما كتب درويش قصيدة "أحن إلى أمي".
لكتابة "أحن إلى أمي" قصة بدأت مع طفولة " محمود درويش" حيث كان ترتيبه الثاني بين إخوته و من المُتعارف عليه في مُعظم الأسر العربية أن غالبًا ما يكون الأخ الأوسط أو الأخت الوسطى مهمشين بين الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى الذين دائمًا ما يُعتد برأيهم في الأسرة و بين الأخ الأصغر أو الأخت الصغرى الذين دائمًا ما ينالون قسط أكبر من التدليل بين باقي إخواتهم.
اعتقد "محمود درويش" بأن والدته لا تحبه بقدر أخته و أخيه للسبب السابق ذكره لفترة لمدة تزيد عن العشرين عامًا ، حتى اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1965 على خلفية إلقائه لقصيدة شعرية في "جامعة القدس" دون أخذ تصريح و تم ترحيله لسجن بمنطقة "الرملة" .
جاءت والدته لزيارته فيما بعد و على وجهها كل علامات الأسى و الحزن و هي حاملة بين يديها الخبز و القهوة التي أعدتهم خصيصًا له وعندما رفضت قوات الإحتلال إدخال الخبز و القهوة ل"محمود" أصرت على إدخالهم له "لأنه يحبهم" و بالفعل أدخلتهم له وبمجرد رؤيته لأمه ألقى بنفسه بين أحضانها و من هنا شعر بالذنب الشديد تجاه إحساسه الخاطيء تجاه والدته كل تلك السنوات كما قال " ولما انصرفت لم أجد أجمل من الاعتذار لها إلا بكتابة القصيدة، اعتذار عن ظلمي لها سنوات لم أكن أفهمها كما ينبغي أن يفهم الأبناء أمهاتهم".
و بالفعل عند إنصرافها قرر كتابة"أحن إلى أمي" و لكن وقت ذلك لم يكن مسموحًا بإدخال الأوراق للسجناء ،لذا كتبها على ورق الألمونيوم المُغلف لعلبه سجائره.
و تطبيقًا للحكمة الشهيرة " يولد الإبداع من رحم المُعاناة" ، ولدت " أحن إلى أمي" نتاج معاناة "محمود درويش" بين طيات سجن الإحتلال و بين طيات حُكمه الخاطيء على أمه.
و افتتح درويش قصيدة "أحن إلى أمي" أو "إعتذار" كما أسماها في البداية ب :
أحن إلى خبز أمي
و إلى قهوة أمي
تم تداول قصيدة "أحن إلى أمي" بين الملايين حول العالم و تغنى بها العديد من المُطربين و أبرزهم اللبناني الرائع "مارسيل خليفة" .
وفي حديثه بالوثائقي يقول مارسيل خليفة إن هذه الكمات أوصلته لحالة وجدانية فريدة، وإنه لم يلحنها من أجل الجمهور، وإنما وجد نفسه في حاجة لغناء "أحن إلى خبز أمي.. وقهوة أمي ولمسة أمي".
ويقول "سبب ذلك الالتحام والتمثّل والتلاقي الروحاني هو أن خبز أم درويش يشبه خبز أمي، وقهوتها تشبه قهوة أمي. كانت صدفة ولم أكن أتصور أن تتحول الأغنية إلى خبز يومي لكل الناس".
يوضح مارسيل خليفة ظروف تلحينه وغنائه لهذه الكلمات بالقول "كان ذلك في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وكنت حبيس بيتي بسبب ميولي السياسية وتضامني مع القضية الفلسطينية، ولم يكن معي سوى دواوين درويش. وبدأت آخذ القصائد. كانت القصيدة الأولى وعود من العاصفة، والثانية إلى أمي".
أما أحمد درويش -وهو شقيق محمود درويش- فيروي أنه شهد لحظة ميلاد هذه القصيدة إذ رافق والدته في زيارتها لأخيه في سجن الرملة، وكان حاضرا عندما سكب جندي الاحتلال القهوة على الأرض.
يقول أحمد إن شقيقه محمود كتب القصيدة ولم يكن يعلم أنها ستحظى بشعبية كبيرة في العالم العربي، ويذكر أن والدتهما كانت تبكي عندما تسمع القصيدة إذ تهيّج أشواقها لمحمود الذي ترك البلاد مطلع السبعينيات وعاش في المنفى نحو ثلاثة عقود.
وتعليقا على تحليق كلمات درويش في سماء الفن، يقول الشاعر سعد الدين شاهين "التقطها فنان وملحن بارع وساعد في انتشارها". وهذا ما يعترف به شقيق درويش فقال "القصيدة لم تأخذ الشهرة إلا بعد أن غناها مارسيل خليفة".
أما الشاعر محمد ضمرة فيرى أن مارسيل التقط النص ونظر إليه نظرة خاصة ولم يكن يغني لأم درويش وإنما لأمه التي يستحضرها في خياله، وكذلك كان كل شخص يسمعها ويتفاعل معها وهو يتخيل والدته.
وفي الفيلم لقطات أرشيفية من مهرجان قرطاج الدولي يظهر فيها مارسيل خليفة وقد حلّق بالجمهور في عوالم محمود درويش:
أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبُر في الطفولة
يوما على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا مت
أخجل من دمع أمي
خذيني، إذا عدت يوما
وشاحا لهُدْبِك
وغطي عظامي بعشب
تعمّد من طهر كعبك
وشُدّي وثاقي.. بخصلة شعر
بخيط يلوّح في ذيل ثوبك..
عساني أصير إلها.. إلها أصيرْ
إذا ما لمست قرارة قلبك
ضعيني، إذا ما رجعت
وقودا بتنّور نارك..
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدت الوقوف
بدون صلاة نهارك
هرمت، فردي نجوم الطفولة
حتى أشارك صغار العصافير
در بالرجوع.. لعش انتظارك.
المصدر : احكي + الجزيرة الوثائقية
تساعدك أداة محول العملات على تحويل قيمة أي عملة إلى أي عملة أخرى.